العالَمُ يَتَشَلَّعُ. العالَمُ يَنتَحِرُ.

لَقَد إختارَ طَوعاً أن يَنصَرِفَ لا الى التَحقيقِ، إنطِلاقاً مِن جَوهَرِهِ القائِمِ على تَنظيمِ الجَسَدِ وَتَمايُزِ الروحِ. أيّ على تأكيدِ التَميِّيزِ الوجوديِّ بإستِقلالِيَّةِ العَقلانِيَّةِ، وإستِقلالِيَّةِ الإرادِيَّةِ في الأصلِ.

تَمَرَّدَ العالَمُ على ذاتِيَّتِهِ بالتَشويهِ لِمَركَزِيَّتِهِ، فإنقَسَمَ بَينَ سُلَطوِيَّتَي عِبادَةِ الآلَةِ وَعِبادَةِ الدَولَةِ. وَفي الحالَتَينِ، إستَعبَدَ الإنسانَ في ما هو: الكائِنُ المَولودُ في آنٍ مِن إنسانٍ آخَرَ، وَمِن مَنبَعِ الجَوهَرِ والوجودِ: اللهُ. وَكانَ السُقوطُ: ألغى اللهَ، فألغى حُكماً الإنسانَ. ما عادَ الجَوهَرُ فِعلاً تأسيسِيَّاً لِلوجودِ، وَلا الوجودُ فِعلاً مُحتَمَلاً لِلحَقيقَةِ. بَل ما عادَ الجَوهَرُ مُحَقِّقاً لِلوجودِ الكُلُّ عُنصُرٍ مِن عَناصِرِهِ إنسانِيٌّ، بِمِعنى أنَّهُ بالروحِ والجَسَدِ. فَصَرَخَ الإنسانُ، ذَكَراً وَأُنثى: أنا لَستُ بَعدُ بإنسانٍ. أنا، المُشَيَّءُ اللاأعرِفُ مَن أنا وِحدَةُ التَبادُلِ بَينَ عُبودِيَّاتِ التَحَكُّمِ والتَمَلُّكِ والإباداتِ... لا لُزومَ بَعدُ لي.

هي ثالوثِيَّةٌ أُبيدَت في ضَلالِ الإنتِحارِ وَقَد لَفَظَتها زَوغَةُ الذُروَةِ: البُعدُ العُضويُّ-العَقلِيُّ، البُعدُ الروحِيُّ-النَفسِيُّ، البُعدُ الأخلاقِيُّ-الإيكولوجِيُّ.

ها هوَذا العالَمُ في إنتِحارِهِ، لا صورَةَ لَهُ. بِوَجهِهِ: لبنانُ، وَحدَهُ.

غَريبٌ إصرارُهُ، هذا الُلبنانُ، على صِدقِيَّةِ الحَياةِ. هو مُذ كانَ، تَنازَعَ إبادَتَهُ، وَتَمَلُّكَهُ والتَحَكُّمَ بِهِ، كُلُّ مَن سَبَبيَّاتُهُ الإلغاءُ وَمَقاصِدُهُ الإفناءُ. لَو كانَ إرتِضاؤهُ الآنِيَّاتُ المُنفَصِمَةِ عَن وَعيِّ كيانِيَّتِهِ، لَكانَ عابِراً. غَيرُهُ، إلتَمَسَ النِسبِيَّاتَ رَفضاً لِإرادَةِ وَعيِّهِ أو إنكاراً لِذاتِيَّتِها. غَيرُهُ إنقادَ، الى مَتاهاتِ إستِحالَةِ التَفكيرِ بِوَعيِّهِ، أو حتَّى الى غَياهِبِ الكُفرِ بِهِ، طَمَعاً بِالغَريزَةِ تَعويضَ بَقاءٍ. غَيرُهُ إقتَبَلَ الهاوِيَةَ مَنفى خاصِيَّتِهِ تِجاهَ مَجامِعَ عَقلِهِ وَقَلبِهِ. والتاريخُ شاهِدُ كَم أنَّ كُلَّ هذا الغَيرَ إنتَهى ضَحِيَّةَ مَن في إنتِحارِهِ إستَجلَبَهُ أو ساقَهُ الى مَوتِهِ.

في ذُروَةِ إنتِحارِ العالَمِ، لبنانُ وَحدَهُ، خَطُّ الدِفاعِ الأَوَّلِ والأخيرِ عَن جَوهَرِ الوجودِ، مِن تورَ البيبلوسِيِّ المُبَشِّرِ بالكَيانِ الإنسانِيِّ العَلَى صورَةِ اللهِ يَقومُ الى الحَياةِ مِن المَوتِ... وَقَد شَلَّعَ الجَحيمَ لا الخَليقَةَ، الى آخِرِ شَهيدِ حَقٍّ إستَشهَدَ، مَنسِيَّ الإسمِ، وقوفاً على بابِهِ، مُضطَهَداً، مُدمى، أشلاءَ، دِفاعاً عَن فَرادَةِ أحَقِيَّتِهِ.

خُصوبَةُ الألَمِ

يَومَ كَرَّسَ Publius Ovidius Naso المَعروفُ بِأوفيدَ، شاعِرُ نَشأةِ الإمبراطورِيَّةِ الرومانِيَّةِ، أسَسِيَّتَها على قاعِدَةِ: Adde parvum parvo magnus acervus erit أضِفِ القَليلَ الى القَليلِ تَغنَمُ الكَثيرَ، رَدَّ عَلَيهِ أغوسطينوسُ إبنُ قَرطاجَةَ حَفيدُ صورَ، عَشِيَّةَ إنهيارِ الإمبراطورِيَّةِ ضَحِيَّةَ تَهافُتِ تَشَلُّعِها وَتَنامي إنتِحاراتِها: Sed vae tibi, flumen moris humani الوَيلُ لَكَ يا نَهرَ الإعتيادِ!

هو كانَ يُدرِكُ أنَّ السُقوطَ مِن داخِلَ، بالإنحِرافِ عَن الأصلِ، سَيَغدو نَهجَ إستِكباراتِ الغُلوِّ في التَحَكُّمِ والتَمَلُّكِ والإباداتِ.

هو كانَ يُدرِكُ أنَّ قَرطاجَةَ، وَقَبلَها صورَ، ضَحِيَّتا روما وَلَواحِقَها، تَكتَنِزانِ سِرَّ الحَياةِ: هُما البَقاءُ، وَكُلُّ روما في العالَمِ نَهرُ حِجارَةٍ... عابِرَةٍ.

هو كانَ يُدرِكُ أنَّ ذاكَ الُلبنانَ الذي مِنهُ تَحَدَّرَ، واقِعٌ فِدائِيٌّ. مِن خُصوبَةِ الألَمِ، أوجَدَ المِعنى لإنتِصارِهِ مِن داخِلِ، والمِعنى لِتَماثُلِ سِرِّهِ والمَهزومينَ لِرَفضِهِمِ جُحودَ تَحقيقِهِمِ في جَوهَرِ الوجودِ، بالروحِ والجَسَدِ، بالروحِ قَبلَ الجَسَدِ.

وَحدَهُ لبنانُ التَحقيقُ-الأِوَّلُ؟ شَجاعَةُ التَحقيقِ في اللهِ وَفي الإنسانِ؟ في الخالِقِ والخَليقَةِ... لِلخالِقِ والخَليقَةِ... بِوَجهِ الطُغيانِ؟

قُل: في خُصوبَةِ ذاكَ الألَمِ: في كُسوفِ الإيمانِ، وإندِحارِ المِعنى، وأُفولِ التَعزِيَةِ... لا إلَّا لبنانَ.

كالزَيتونِ المُعَمِّرِ يَعرِفُ أهلَهُ.